إثنتا عشرة جداريّة مكتشفة سنة 2017م في دياميس Santa Domitilla في وسط روما تعود إلى بدايات القرن الخامس الميلاديّ وتستحقّ الوقوف أمامها لتمجيد الربّ، وللتأمّل كيف ترجم المسيحيّون الأوائل إيمانهم الكبير عيشًا وفنًّا، وتركوا لنا شهادة عظيمة أنّ التصوير الكنسيّ هو من صلب الإيمان المسيحيّ منذ البداية.
فقد صدرت مقالة في موقع www.thetrumpet.com يشرح فرح المكتشفين للجداريّات في مقصورة "dei Fornai" (الخبّازون) وذلك بفضل تقنيّة حديثة بالليزر ساعدتهم في نزع طبقة سميكة من الطحالب ورواسب الكالسيوم والدخان، كانت قد أخفت لوحات السقف هذه لقرون عدّة.
ملفت ما صرّحت به رئيسة مشروع الترميم: "عندما بدأنا العمل، لم نتمكّن من رؤية أي شيء، وكان الظلام دامسًا بالكامل. لكن، سمحت لنا أطوال موجيّة بالليزر إنجاز العمل، وحرق التشوّه الأسود من دون التأثير على الألوان الموجودة تحته".
فرحة علميّة وإنجاز بالتأكيد. فحبّذا لو طبّقنا هذا الأمر في علاقتنا مع الربّ، واكتشفنا هويّتنا الحقيقيّة السماويّة بالأطوال الموجيّة للروح القدس التي تجعلنا نعي بأنّنا أبناء الله بالتبنّي والنعمة. ويا لها من استنارة كبيرة لو استعنّا بالروح نفسه لنزع التشّوه الأسود منّا الناتج عن الخطيئة المعشعشة فينا. كم ستكون عندئذ كبيرةً، فرحةُ الربّ بنا، كذلك فرحة أهل السماء، وفرحتنا نحن! إنّها حقًّا لولادة جديدة.
فإلى جانب البُعد اللاهوتيّ لما تمثلّه الجداريّات من أحداث خلاصيّة من العهدين القديم والجديد، فهي تظهر بوضوح كيف لبِس الفنّ الرومانيّ اللباس المسيحيّ.
تستوقفنا جداريّة نشاهد فيها الربّ يسوع المسيح جالسًا على عرش، وعن يمينه ويساره الرسل الأطهار. فهو مصوّر كأنّه إمبراطور رومانيّ شعره قصير وليس له لحية، على الرغم من كونه شرقيًّا ومولودًا في عائلة رأسها نجّار.
فبعد أن أصبحت المسيحيّة معتقد الإمبراطوريّة الرومانيّة في القرن الرابع الميلاديّ مع الإمبراطور ثيودوسيوس الأوّل، واخذت حريّتها الشرعيّة قبله مع قسطنطين، اعتنق الكثير من الفنّانين الروميّين الإيمان المسيحيّ وصوّروا يسوع مثل إمبراطورهم، وحتّى مثل بعض آلهتهم الوثنيّة التي كانوا يعبدونها. لهذا، ساد الشكل لوجه يسوع كما ذكرنا لغاية القرن الخامس - السادس الميلاديّ تقريبًا. وبعدها، صار يسوع يصوّر بشكل نهائيّ بشعرٍ طويل، ومُلتَحٍ.
هنا نطرح سؤالًا دقيقًا: "فنيًّا، اختفى الشكل الوثنيّ عن يسوع، ولكن كم من مرّة نحاول أن نطبّق على يسوع آلهة، نحن نعبدها مثل التسلّط والسعي إلى المراكز باسمه وخلق جماعات تعبدنا بدل أن تعبد الربّ؟". هناك وثنيّة ساكنة في قلوبنا أخطر بكثير من الوثنيّة القديمة ولا تزول إلّا إذا سكن الربّ مكانها.
بالعودة إلى الجداريّة، نرى يسوع يبارك بيده اليمنى. حركة أصابعه نشاهدها دائمًا في الأيقونات، وهي ترسم الحرفين الأوّلين والأخيرين من يسوع المسيح باللغة اليونانيّة القديمةICXC .
وجود يسوع في وسط التلاميذ ما هو إلّا دعوة لنا لنتحلّق حوله ويكون هو ليس في وسطنا فحسب، بل في داخلنا ومحور حياتنا أيضًا. نحن جميعًا مدعوّون إلى أن نكون قدّيسين وتلاميذًا للربّ ومبشّرين بالروح القدس، هذا إذا سمحنا له، أوّلًا، بالسكن فينا. فالترتيب الليتورجيّ ختم الزمن الخمسينيّ بأحد جميع القدّيسين الذي أتى بعد أحد حلول الروح القدس مباشرة. وفي هذا الأحد نقرأ دعوة يسوع لأربعة من تلاميذه ليكونوا صيّادين للبشر .
دعاهم الربّ ونقلهم من بحر العالم الهائج إلى بحر السموات الهادىء، لينقلوا بدورهم الناس إلى السموات. نقلهم من صيد فانٍ إلى صيد باق، من صيد أرضيّ إلى صيد ملكوتيّ.
صيد الربّ وفير ويمزّق شباك الخطيئة ويملأ نفوسنا نعمًا وبركات. بالمقابل، هناك مشروطيّة جازمة، كانت تتعلّق بالتلاميذ وبالتالي تتعلّق بكلّ واحد منّا، لأن كلّ واحد منّا مدعوّ إلى أن يكون صيّادًا يجذب الناس إلى شبكة الإنجيل كلمة الحياة، إلّا أنّ هذا لا يتمّ إلّم يسمح المرء أوّلًا أن يصطاده المسيح لأنّ فاقد الشيء، لا يعطيه.
ثانيًا، صيّادو المسيح يصطادون للربّ وليس لأنفسهم، وهذا تمامًا معنى أن نكون "وراء المسيح". هذا أيضًا لا يتمّ إلّم نمتلىء من المسيح فلا نتمسّك بشيء خاصّ لذواتنا. القدّيس مكسيموس المعترف يقول: "ليس المهمّ أن نعمل، المهمّ لمن نعمل". وهنا نسأل: هل نسعى إلى تحقيق ذواتنا خارج المسيح باسم المسيح أم نسعى إلى تحقيق المسيح فينا؟
القدّيس يوحنّا المعمدان قالها علانيةً: "يَنْبَغِي أَنَّ ذلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ." (يوحنا 3: 30). أي أن يزيد المسيح ويكون الكلّ في الكلّ لأنّه أصلًا الضابط الكلّ. أن ينقص المعمدان لا يعني انتقاصًا له بل على العكس تمامًا، هو يعني إغناءً، لأّنّ المسيح هو "خبز الحياة"، وهو "الماء الحيّ"، والخبز والماء يُنميان.
أمّا الأمر الثالث، الصيد الذي يريدنا الربّ أن نقدّمه إلى الآخرين، فهو بشارة الحياة الأبديّة التي نبدأها من هنا. إنّها بشارة الملكوت التي افتتحها الربّ ودعانا إلى أن نتبع خطاه، وهو معنا لا يتركنا ويؤازرنا بآيات لا توصف.
يتنهي مقطع إنجيل هذا الأحد كالتالي: "وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ كُلَّ الْجَلِيلِ يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ، وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضَعْفٍ فِي الشَّعْب" (متى 23:4).
كلنّا ضعفاء ومرضى وبحاجة إلى شفاء النفس قبل الجسد.
تعال يا ربّ "مَارَانْ أَثَا" واسكن في مجمع قلوبنا ونفوسنا وكياننا كلّه، واصطدنا في شباك محبّتك اللامتناهية فنكون صيّادين أوفياء لك وأمناء على كلمتك المحيية ونصطاد الآخرين بك ولك.
إلى الربّ نطلب.